كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقالت طائفة منهم النقاش وغيره أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء والهبوط الاول إلى الأرض وهو آخر الهبوطين في الوقوع وإن كان اولهما في الذكر وقالت طائفة اتى به على جهة التغليظ والتأكيد كما تقول للرجل أخرج اخرج وهذه الاقوال ضعيفة فأما القول الاول فيظهر ضعفه من وجوه احدها أنه مجرد دعوى لا دليل عليها من اللفظ ولا من خبر يجب المصير إليه وما كان هذا سبيله لا يحمل القرآن عليه الثاني أن الله سبحانه قد اهبط إبليس لما امتنع من السجود لادم اهباطا كونيا قدريا لا سبيل له إلى التخلف عنه فقال تعالى: {اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين} وقال في موضع آخر: {فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين} وفي موضع آخر: {اخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} وسواء كان الضمير في قوله منها راجعا إلى السماء أو إلى الجنة فهذا صريح في اهباطه وطرده ولعنه وادحاره والمدحور المبعد وعلى هذا فلو كانت الجنة فوق السموات لكان قد صعد اليها بعد اهباط الله له وهذا وإن كان ممكنا فهو في غاية البعد عن حكمة الله ولا يقتضيه خبره فلا ينبغي أن يصار إليه وأما الوجوه الاربعة التي ذكرتموها من صعوده للوسوسة فهي مع أمر الله تعالى بالهبوط مطلقا وطرده ولعنه ودحوره لا دليل عليها لا من اللفظ ولا من الخبر الذي يجب المصير إليه وما هي إلا احتمالات مجردة وتقديرات لا دليل عليها الثالث أن سياق قصة اهباط الله تعالى لابليس ظاهرة في أنه اهباط إلى الأرض من وجوه احدها أنه سبحانه نبه على حكمة اهباطه بما قام به من التكبر المقتضى غاية ذله وطرده ومعاملته بنقيض قصده وهو اهباطه من فوق السموات إلى قرار الأرض ولا تقتضى الحكمة أن يكون فوق السماء مع كبره ومنافاة حاله لحال الملائكة الاكرمين الثاني أنه قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين وكونه رجيما ملعونا ينفى أن يكون في السماء بين المقربين المطهرين الثالث أنه قال أخرج منها مذؤما مدحورا وملكوت السموات لا يعلوه المذموم المدحور ابدا وأما القول الثاني فهو القول الاول بعينه مع زيادة ما لا يدل عليه السياق بحال من تقديم ما هو مؤخر في الواقع وتأخير ما هو مقدم فيه فيرد بما رد به القول الذي قبله وأما القول الثالث وهو أنه للتأكيد فإن أريد التأكيد اللفظي المجرد فهذا لا يقع في القرآن وإن اريد به أنه مستلزم للتغليظ والتأكيد مع ما يشتمل عليه من الفائدة فصحيح فالصواب أن يقال اعيد الاهباط مرة ثانية لأنه علق عليه حكما غير المعلق على الاهباط الاول فإنه علق على الاول عداوة بعضهم بعضا فقال اهبطوا بعضكم لبعض عدو وهذه جملة حالية وهي اسمية بالضمير وحده عند الأكثرين والمعنى اهبطوا متعادين وعلق على الهبوط الثاني حكمين آخرين أحدهما هبوطهم جميعا والثاني قوله: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون} فكأنه قيل اهبطوا بهذا الشرط مأخوذا عليكم هذا العهد وهو أنه مهما جاءكم مني هدى فمن اتبعه منكم فلا خوف عليه ولا حزن يلحقه ففي الاهباط الاول إيذان بالعقوبة ومقابلتهم على الجريمة وفي الاهباط الثاني روح التسلية والاستبشاربحسن عاقبة هذا الهبوط لمن تبع هداي ومصيره إلى الامن والسرور المضاد للخوف والحزن فكسرهم بالاهباط الاول وجبر من اتبع هداه بالاهباط الثاني على عادته سبحانه ولطفه بعباده وأهل طاعته كما كسر آدم بالاخراج من الجنة وجبره بالكلمات التي تلقاها منه فتاب عليه وهداه ومن تدبر حكمته سبحانه ولطفه وبره بعباده وأهل طاعته في كسره لهم ثم جبره بعد الانكسار كما يكسر العبد بالذنب ويذله به ثم يجبره بتوبته عليه ومغفرته له وكما يكسره بأنواع المصائب والمحن ثم يجبره بالعافية والنعمة انفتح له باب عظيم من أبواب معرفته ومحبته وعلم أنه ارحم بعباده من الوالدة بولدها وإن ذلك الكسر هو نفس رحمته به وبره ولطفه وهو أعلم بمصلحة عبده منه ولكن العبد لضعف بصيرته ومعرفته بأسماء ربه وصفاته لا يكاد يشعر بذلك ولا ينال رضا المحبوب وقربه والابتهاج والفرح بالدنو منه والزلفى لديه الاعلى جسر من الذلة والمسكنة وعلى هذا قام أمر المحبة فلا سبيل إلى الوصول إلى المحبوب إلا بذلك كما قيل:
تذلل لمن تهوى لتحظى بقربه ** فكم عزة قد نالها العبد بالذل

إذا كان من تهوى عزيز أو لم تكن ** ذليلا له فاقرا السلام على الوصل

وقال آخر:
اخضع وذل لمن تحب فليس في ** شرع الهوى انف يشال ويقعد

وقال آخر:
وما فرحت بالوصل نفس عزيزة ** وما العز إلا ذلها وانكسارها

قالوا وإذا علم أن إبليس اهبط من دار العز عقب امتناعه وإبائه من السجود لادم ثبت أن وسوسته له ولزوجه كانت في غير المحل الذي اهبط منه والله اعلم قالوا واما قولكم أن الجنة إنما جاءت معرفة باللام وهي تنصرف إلى الجنة التي لا يعهد بنو آدم سواها فلا ريب إنها جاءت كذلك ولكن العهد وقع في خطاب الله تعالى آدم لسكناها بقوله اسكن أنت وزوجك الجنة فهي كانت معهودة عند آدم ثم اخبرنا سبحانه عنهامعرفا لها بلام التعريف فانصرف العرف بها إلى تلك الجنة المعهودة في الذهن وهي التي سكنها آدم ثم أخرج منها فمن اين في هذا ما يدل على محلها وموضعها بنفي أو إثبات وأما مجيء جنة الخلد معرفة باللام فلأنها الجنة التي اخبرت بها الرسل لاممهم ووعدها الرحمن عباده بالغيب فحيث ذكرت انصرف الذهن اليها دون غيرها لأنها قد صارت معلومة في القلوب مستقرة فيها ولا ينصرف الذهن إلى غيرها ولا يتوجه الخطاب إلى سواها وقد جاءت الجنة في القرآن معرفة باللام والمراد بها بستان في بقعة من الأرض كقوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين} فهذا لا ينصرف الذهن فيها إلى جنة الخلد ولا إلى جنة آدم بحال قالوا وما قولكم أنه قد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الجنة والنار مخلوقتان وإنه لم ينازع في ذلك إلا بعض أهل البدع والضلال واستدلالكم على وجود الجنة الان فحق لاننازعكم فيه وعندنا من الادلة على وجودها اضعاف ما ذكرتم ولكن أي تلازم بين أن تكون جنة الخلد مخلوقة وبين أن تكون هي جنة آدم بعينها فكانكم تزعمون أن كل من قال: إن جنة آدم هي جنة في الأرض فلابد له أن يقول أن الجنة والنار لم يخلقا بعد وهذا غلط منكم منشؤه من توهمكم أن كل من قال بأن الجنة لم تخلق بعد فإنه يقول أن جنة آدم هي في الأرض كذلك بالعكس أن كل من قال: إن جنة آدم في الأرض فيقول أن الجنة لم تخلق فأما الاول فلا ريب فيه وأما الثاني فوهم لا تلازم بينهما لافي المذهب ولا في الدليل فأنتم نصبتم دليلكم مع طائفة نحن وانتم متفقون على انكار قولهم ورده وابطاله ولكن لا يلزم من هذا بطلان هذا القول الثالث وهذا واضح قالوا وأما قولكم أن جميع ما نفاه الله سبحانه عن الجنة من اللغو والعذاب وسائر الافات التي وجد بعضها من إبليس عدو الله فهذا إنما يكون بعد القيامة إذا دخلها المؤمنون كما يدل عليه السياق فجوابه من وجهين أحدهما أن ظاهر الخبر يقتضي نفيه مطلقا لقوله تعالى: {لا لغو فيها ولا تأثيم} ولقوله تعالى: {لا تسمع فيها لاغية} فهذا نفي عام لا يجوز تخصيصه إلا بمخصص بين والله سبحانه قد حكم بانها دار الخلد حكما مطلقا فلا يدخلها إلا خالد فيها فتخصيصكم هذه التسمية بما بعد القيامة خلاف الظاهر الثاني أن ما ذكرتم إنما يصار إليه إذا قام الدليل السالم عن المعارض المقاوم إنها جنة الخلد بعينها وحينئذ يتعين المصير إلى ما ذكرتم فأما إذا لم يقم دليل سالم على ذلك ولم تجمع الامة عليه فلا يسوغ مخالفة ما دلت عليه النصوص البينة بغير موجب والله اعلم قالوا ومما يدل على إنها ليست جنة الخلد التي وعدها المتقون أن الله سبحانه لما خلق آدم اعلمه أن لعمره أجلا ينتهي إليه وأنه لم يخلقه للبقاء ويدل على هذا ما رواه الترمذي في جامعه قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا الحارث بن عبد الرحمن ابن أبي زياب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله يا رب فقال له ربه يرحمك الله يا آدم إذهب إلى اولئك الملائكة إلى ملاء منهم جلوس فقل السلام عليكم قالوا وعليك السلام ثم رجع إلى ربه فقال: إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم فقال الله له ويداه مقبوضتان اختر ايتهما شئت فقال اخترت يمين ربي كلتا يدي ربي يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته قال أي رب ما هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه فإذا رجل اضوؤهم أو من اضوئهم قال يا رب من هذا قال هذا ابنك داود وقد كتبت له عمرا اربعين سنة قال يا رب زد في عمره قال ذاك الذي كتبت له قال أي رب فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة قال أنت وذاك قال ثم اسكن الجنة ما شاء الله ثم اهبط منها وكان آدم يعد لنفسه فأتاه ملك الموت فقال له آدم قد عجلت أليس قد كتبت لي ألف سنة قال بلى ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة فجحد فجحدت ذريته ونسى فنسيت ذريته قال فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وروى من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا فهذا صريح في أن آدم لم يكن مخلوقا في دار الخلد التي لا يموت من دخلها وإنما خلق في دار الفناء التي جعل الله لها ولأهلها أجلا معلوما وفيها اسكن فإن قيل فإذا كان آدم قد علم أن له عمرا ينتهي إليه وأنه ليس من الخالدين فكيف لم يكذب إبليس ويعلم بطلان قوله حيث قال له: {هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} بل جوز ذلك واكل من الشجرة طمعا في الخلد فالجواب ما تقدم من الوجهين اما أن يكون المراد بالخلد المكث الطويل إلى أبد الأبد أو يكون عدوه إبليس لما قاسمه وزوجه وغيرهما واطمعهما بدوامهما في الجنة نسى ما قدر له من عمره قالوا والمعول عليه في ذلك قوله تعالى: {للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} وهذا الخليفة هو آدم باتفاق الناس ولما عجبت الملائكة من ذلك وقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك عرفهم سبحانه أن هذا الخليفة الذي هوجاعله في الأرض ليس حاله كما توهمتم من الفساد بل اعلمه من علمي مالا تعلمونه فأظهر من فضله وشرفه بأن علمه ال أسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فلم يعرفوها وقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم وهذا يدل على أن هذا الخليفة الذي سبق به اخبار الرب تعالى لملائكته وأظهر تعالى فضله وشرفه وأعلمه بما لم تعلمه الملائكة وهو خليفة مجعول في الأرض لا فوق السماء فإن قيل قوله تعالى: {اني جاعل في الأرض خليفة} إنما هو بمعنى سأجعله في الأرض فهي مآله ومصيره وهذا لا ينافي أن يكون في جنة الخلد فوق السماء اولا ثم يصير إلى الأرض للخلافة التي جعلها الله له واسم الفاعل هنا بمعنى الاستقبال ولهذا انتصب عنه المفعول فالجواب أن الله سبحانه اعلم ملائكته بانه يخلقه لخلافة الأرض لا لسكنى جنة الخلود وخبره الصدق وقوله الحق وقد علمت الملائكة أنه هو آدم فلو كان قد اسكنه دار الخلود فوق السماء لم يظهر للملائكة وقوع المخبر ولم يحتاجوا إلى أن يبين لهم فضله وشرفه وعلمه المتضمن رد قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فإنهم إنما سألوا هذا السؤال في حق الخليفة المجعول في الأرض فأما من هو في دار الخلد فوق السماء فلم تتوهم الملائكة منه سفك الدماء والفساد في الأرض ولا كان اظهار فضله وشرفه وعلمه وهو فوق السماء رادا لقولهم وجوابا لسؤالهم بل الذي يحصل به جوابهم وضد ما توهموه إظهار تلك الفضائل والعلوم منه وهو في محل خلافته التي خلق لها وتوهمت الملائكة أنه لا يحصل منه هناك إلا ضدها من الفساد وسفك الدماء وهذا واضح لمن تأمله وأما اسم الفاعل وهو فاعل وإن كان بمعنى الاستقبال فلأن هذا إخبار عما سيفعله الرب تعالى في المستقبل من جعله الخليفة في الأرض وقد صدق وعده ووقع ما أخبر به وهذا ظاهر في أنه من أول الأمر جعله خليفة في الأرض وأما جعله في السماء اولا ثم جعله خليفة في الأرض ثانيا وإن كان مما لا ينافي الاستخلاف المذكور فهو ممالا يقتضيه اللفظ بوجه بل يقتضى ظاهره خلافه فلا يصار إليه إلا بدليل يوجب المصير إليه وحوله ندندن قالوا وأيضا فمن المعلوم الذي لا يخالف فيه مسلم أن الله سبحانه خلق آدم من تراب وهو تراب هذه الأرض بلا ريب كما روى الترمذي في جامعه من حديث عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الاحمر والابيض والاسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقد رواه الامام احمد في مسنده من طرق عدة وقد أخبر سبحانه أنه خلقه من تراب وأخبر أنه خلقه من سلالة من طين واخبر أنه خلقه من صلصال من حمأ مسنون والصلصال قيل فيه هو الطين اليابس الذي له صلصلة ما لم يطبخ فإذا طبخ فهو فخار وقيل فيه هو المتغير الرائحة من قولهم صل إذا انتن والحمأ الطين الاسود المتغير والمسنون قيل المصبوب من سننت الماء إذا صببته وقيل المنتن المسن من قولهم سننت الحجر على الحجر إذا حككته فإذا سال بينهما شيء فهو سنين ولا يكون إلا منتنا وهذه كلها اطوار التراب الذي هو مبدؤه الاول كما اخبر عن خلق الذرية من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وهذه احوال النطفة التي هي مبدأ الذرية ولم يخبر سبحانه أنه رفعه من الأرض إلى فوق السموات لا قبل التخليق ولا بعده وإنما اخبر عن اسجاد الملائكة له وعن إدخاله الجنة وما جرى له مع إبليس بعد خلقه فأخبر سبحانه بالأمور الثلاثة في نسق واحد مرتبطا بعضها ببعض قالوا فأين الدليل الدال على إصعاد مادته واصعاده بعدخلقه إلى فوق السموات هذا مما لا دليل لكم عليه اصلا ولا هو لازم من لوازم ما أخبر الله به قالوا ومن المعلوم أن ما فوق السموات ليس بمكان للطين الأرض ي المتغير الرائحة الذي قد انتن من تغيره وإنما محله هذا الأرض التي هي محل المتغيرات والفاسدات وأما ما كان فوق الأملاك فلا يلحقه تغير ولا نتن ولافساد ولا استحاله قالوا وهذا أمر لا يرتاب فيه العقلاء قالوا وقد قال تعالى: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} فأخبر سبحانه أن هذا العطاء في جنة الخلد غير مقطوع وما اعطيه آدم فقد انقطع فلم تكن تلك جنة الخلد قالوا وأيضا فلا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم في الأرض كما تقدم ولم يذكر في قصته أنه نقله إلى السماء ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان هذا أولى بالذكر لأنه من اعظم انواع النعم عليه واكبر اسباب تفضيله وتشريفه وابلغ في بيان آيات قدرته وربوبيته وحكمته وابلغ في بيان المقصود من عاقبة المعصية وهو الاهباط من السماء التي نقل اليها كما ذكر ذلك في حق إبليس فحيث لم يجيء في القرآن ولا في السنة حرف واحد أنه نقله إلى السماء ورفعه اليها بعد خلقه في الأرض علم أن الجنة التي ادخلها لم تكن هي جنة الخلد التي فوق السموات قالوا وأيضا فإنه سبحانه قد اخبر في كتابه أنه لم يخلق عباده عبثا ولا سدى وأنكر على من زعم ذلك فدل على أن هذا مناف لحكمته ولو كانتا جنة آدم هي جنة الخلد لكانوا قد خلقوا في دار لا يؤمرون فيها ولا ينهون وهذا باطل بقوله أيحسب الانسان أن يترك سدى قال الشافعي وغيره معطلا لا يؤمر ولا ينهى وقال: {أفحسبتم أنا خلقناكم عبثا} فهو تعالى لم يخلقهم عبثا ولا تركهم سدى وجنة الخلد لا تكليف فيها قالوا وأيضا فإنه خلقها جزاء للعاملين بقوله تعالى: {نعم اجر العالمين} وجزاء للمتقين بقوله: {ولنعم دار المتقين} ودار الثواب بقوله: {ثوابا من عند الله} فلم يكن ليسكنها إلا من خلقها لهم من العاملين ومن المتقين ومن تبعهم من ذرياتهم وغيرهم من الحور والولدان وبالجملة فحكمته تعالى اقتضت إنها لا تنال إلا بعد الابتلاء والامتحان والصبر والجهاد وأنواع الطاعات وإذا كان هذا مقتضى حكمته فإنه سبحانه لا يفعل إلا ما هومطابق لها قالوا فإذا جمع ما أخبر الله عز وجل به من أنه خلقه من الأرض وجعله خليفة في الأرض وأن إبليس وسوس له في مكانه الذي اسكنه فيه بعد أن اهبط إبليس من السماء وأنه أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة وأن دار الجنة لا لغو فيها ولا تاثيم وإن من دخلها لا يخرج منها ابدا وإن من دخلها ينعم لا يبؤس وانه لا يخاف ولا يحزن وإن الله سبحانه حرمها على الكافرين وعدو الله إبليس اكفر الكافرين فمحال أن يدخلها اصلا لا دخول عبور ولا دخول قرار وانها دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان إلى غير ذلك مما ذكرناه من منافاة اوصاف جنة الخلد للجنة التي اسكنها آدم إذا جمع ذلك بعضه إلى بعض ونظر فيه بعين الانصاف والتجرد عن نصرة المقالات تبين الصواب من ذلك والله المستعان.
قال الاخرون بل الجنة التي اسكنها آدم عند سلف الامة وأئمتها وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد ومن قال إنها كانت جنة في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك فهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة أو من اخوانهم المتكلمين المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتفسلفة والمعتزلة والكتاب يرد هذا القول وسلف الامة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول قال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس ابى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} فقد أخبر سبحانه أنه أمرهم بالهبوط وإن بعضهم لبعض عدو ثم قال ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين وهذا بين أنهم لم يكونوا في الأرض وإنما اهبطوا إلى الأرض فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا منها إلى ارض اخرى كما انتقل قوم موسى من ارض إلى ارض كان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط كما هو بعده وهذا باطل قالوا وقد قال تعالى في سورة الاعراف لما قال إبليس: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين} يبين اختصاص الجنة التي في السماء بهذا الحكم بخلاف جنة الأرض فإن إبليس كان غير ممنوع من التكبر فيها والضمير في قوله: {منها} عائد إلى معلوم وإن كان غير مذكور في اللفظ لان العلم به أغنى عن ذكره قالوا وهذا بخلاف قوله: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} فإنه لم يذكر هنا ما اهبطوا منه وإنما ذكر ما اهبطوا إليه بخلاف اهباط إبليس فإنه ذكر مبدأ هبوطه وهو الجنة والهبوط يكون من علوالى سفل وبنو اسرائيل كانوا بجبال السراة المشرفة على مصر الذي يهبطون إليه ومن هبط من جبل إلى واد قيل له اهبط قالوا وأيضا فبنو اسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال نزل فيها لان من عادته أن يركب في مسيره فإذا وصل نزل عن دوابه ويقال نزل العدو بأرض كذا ونزل القفل ونحوه ولفظ النزول كلفظ الهبوط فلا يستعمل نزل وهبط إلا إذا كان من علو إلى سفل وقال تعالى عقب قوله: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} قال: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} فهذا دليل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في مكان فيه يحيون وفيه يموتون ومنه يخرجون والقرآن صريح في أنهم إنما صاروا إليه بعدالاهباط قالوا ولو لم يكن في هذه إلا قصة آدم وموسى لكانت كافية فإن موسى صلى الله عليه وسلم إنما لام آدم عليه السلام لما حصل له ولذريته من الخروج من الجنة من النكد والمشقة فلو كانت بستانا في الأرض لكان غيره من بساتين الأرض يعوض عنه وموسى اعظم قدرا من أن يلومه على أن أخرج نفسه وذريته من بستان في الأرض قالوا وكذلك قول آدم يوم القيامة لما يرغب إليه الناس أن يستفتح لهم باب الجنة فيقول وهل اخرجكم منها إلا خطيئة ابيكم فإن ظهور هذا في كونها جنة الخلد وانه اعتذر لهم بانه لا يحسن منه أن يستفتحها وقد أخرج منها بخطيئته من اظهر الادلة قال الاولون اما قولكم أن من قال إنها جنة في الأرض فهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة أو من اخوانهم فقد اوجدناكم من قال بهذا وليس من احد من هؤلاء ومشاركة أهل الباطل للمحق في المسئلة لا يدل على بطلانها ولا تكون اضافتها لهم موجبة لبطلانها ما لم يختص بها فإن أردتم أنه لم يقل بذلك إلا هؤلاء فليس كذلك وإن أردتم أن هؤلاء من جملة القائمين بهذا لم يفدكم شيئا قالوا وأما قولكم وسلف الامة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول فنحن نطالبكم بنقل صحيح عن واحد من الصحابة ومن بعدهم من ائمة السلف فضلا عن اتفاقهم قالوا ولا يوجد عن صاحب ولا تابع ولا تابع تابع خبر يصح موصولا ولا شإذا ولا مشهورا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى اسكن آدم جنة الخلد التي هي دار المتقين يوم المعاد قالوا وهذا القاضي منذر بن سعيد قد حكى عن غير واحد من السلف إنها ليست جنة الخلد فقال ونحن نوجدكم أن ابا حنيفة فقيه العراق ومن قال بقوله قد قالوا أن جنة آدم التي خلقها الله ليست جنة الخلد وليسوا عند أحد من العالمين من الشاذين بل من رؤساء المخالفين وهذه الدواوين مشحونة من علومهم وقد ذكرنا قول ابن عيينة وقد ذكر ابن مزين في تفسيره قال سألت ابن نافع عن الجنة أمخلوقة فقال السكوت عن هذا افضل قالوا فلو كان عند ابن نافع أن الحنة التي اسكنها آدم هي جنة الخلد لم يشك إنها مخلوقة ولم يتوقف في ذلك وقال ابن قتيبة في كتابه غريب القرآن في قوله تعالى: {وقلنا اهبطوا} منها قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أبي صالح هو كما يقال هبط فلان ارض كذا وكذا ولم يذكر في كتابه غيره فأين اجماع سلف الامة وأئمتها قالوا واما احتجاجكم بقوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقر} عقيب قوله: {اهبطوا} فهذا لا يدل على أنهم كانوا في جنة الخلد فان احد الاقوال في المسئلة إنها كانت جنة في السماء غير جنة الخلد كما حكاه الماوردي في تفسره وقد تقدم وأيضا فإن قوله: {ولكم في الأرض مستقر} يدل على أن لهم مستقرا إلى حين في الأرض المنقطعة عن الجنة ولابد فإن الجنة ايضا لها ارض قال تعالى عن أهل الجنة: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين} فدل على أن قوله: {ولكم في الأرض مستقر} المراد به الأرض الخالية من تلك الجنة لا كل ما يسمى ارضا وكان مستقرهم الاول في ارض الجنة ثم صار في ارض الابتلاء والامتحان ثم يصير مستقر المؤمنين يوم الجزاء ارض الجنة ايضا فلا تدل الآية على أن جنة آدم هي جنة الخلد قالوا وهذا هو الجواب بعينه عن استدلالكم بقوله تعالى: {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} فان المراد به الأرض التي اهبطوا اليها وجعلت مسكنا لهم بدل الجنة وهذا تفسير المستقر المذكور في البقرة مع تضمنه ذكر الاخراج منها قالوا وأما قوله تعالى لإبليس {اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} وقولكم أن هذا إنما هو في الجنة التي في السماء وإلا فجنة الأرض لم يمنع إبليس من التكبر فيها فهو دليل لنا في المسئلة فإن جنة الخلد لا سبيل لابليس إلى دخولها والتكبر فيها اصلا وقد اخبر تعالى أنه وسوس لادم وزوجه وكذبهما وغرهما وخانهما وتكبر عليهما وحسدهما وهما حينئذ في الجنة فدل على إنها لم تكن جنة الخلد ومحال أن يصعد اليها بعد اهباطه واخراجه منها قالوا والضمير في قوله: {اهبطوا منها} إما أن يكون عائدا إلى السماء كما هو احد القولين وعلى هذا فيكون سبحانه قد اهبطه من السماء عقب امتناعه من السجود وأخبر أنه ليس له أن يتكبر ثم تكبر وكذب وخان في الجنة فدل على إنها ليست في السماء أو يكون عائدا إلى الجنة على القول الاخر ولا يلزم من هذا القول أن تكون الجنة التي كاد فيها آدم وغره قاسمه كاذبا في تلك التي اهبط منها بل القرآن يدل على إنها غيرها كما ذكرناه فعلى التقديرين لا تدل الآية على أن الجنة التي جرى لادم مع إبليس ما جرى فيها هي جنة الخلد قالوا وأما قولكم أن بني اسرائيل كانوا بجبال السراة المشرفة على الأرض التي يهبطون وهم كانوا يسيرون ويرحلون فلذلك قيل لهم اهبطوا فهذا حق لا ننازعكم فيه وهو بعينه جواب لنا فإن الهبوط يدل على أن تلك الجنة كانت اعلا من الأرض التي اهبطوا اليها واما كونها جنة الخلد فلا قالوا والفرق بين قوله: {اهبطوا مصرا} وقوله: {اهبطوا منها} فإن الاول لنهاية الهبوط وغايته وهبطوا منها متضمن لمبدئه وأوله لا تأثير له فيما نحن فيه فإن هبط من كذا إلى كذا يتضمن معنى الانتقال من مكان عال إلى مكان سافل فأي تأثير لابتداء الغاية ونهايتها في تعيين محل الهبوط بأنه جنة الخلد قالوا وأما قصة موسى ولومه لآدم على إخراجهمن الجنة فلا يدل على أنها جنة الخلد وقولكم لا يظن بموسى أنه يلوم آدم على إخراجه نفسه وذريته من بستان في الأرض تشنيع لا يفيد شيئا افترى كان ذلك بستانا مثل آحاد هذه البساتين المقطوعة المهوعة التي هي عرضة الافات والتعب والنصب والظمأ والحرث والسقي والتلقيح وسائر وجوه النصب الذي يلحق هذه البساتين ولا ريب أن موسى عليه الصلاة والسلام أعلم واجل من أن يلوم آدم على خروجه وإخراج بنيه من بستان هذا شأنه ولكن من قال بهذا وإنما كانت جنة لا يلحقها آفة ولا تنقطع ثمارها ولا تغور انهارها ولا يجوع ساكنها ولا يظمأ ولا يضحى للشمس ولا يعرى ولا يمسه فيها التعب والنصب والشقاء ومثل هذه الجنة يحسن لوم الانسان على التسبب في خروجه منها قالوا واما اعتذار آدم عليه الصلاة والسلام يوم القيامة لأهل الموقف بأن خطيئته هي التي اخرجته من الجنة فلا يحسن أن يستفتحها لهم فهذا لا يستلزم أن تكون هي بعينها التي أخرج منها بل إذا كانت غيرها كان أبلغ في الاعتذار فإنه إذا كان الخروج من غير جنة الخلد حصل بسبب الخطيئة فكيف يليق استفتاح جنة الخلد والشفاعة فيها ثم خرج من غيرها بخطيئة فهذا موقف نظر الفريقين ونهاية أقدام الطائفتين فمن كان له فضل علم في هذه المسئلة فليجد به فهذا وقت الحاجة إليه ومن علم منتهى خطوته ومقدار بضاعته فليكل الأمر إلى عالمه ولا يرضى لنفسه بالتنقيص والازراء عليه وليكن من أهل التلول الذين هم نظارة الحرب إذا لم يكن من أهل الكر والفر والطعن والضرب فقد تلاقت الفحول وتطاعنت الاقران وضاق بهم المجال في حلبة هذا الميدان:
إذا تلاقى الفحول في لجب ** فكيف حال الغصيص في الوسط

هذه معاقد حجج الطائفتين مجتازة ببابك واليك تساق وهذه بضائع تجار العلماء ينادي عليها في سوق الكساد لا في سوق النفاق فمن لم يكن له به شيء من اسباب البيان والتبصرة فلا يعدم من قد استفرغ وسعه وبذل جهده منه التصويب والمعذرة ولا يرضى لنفسه بشر الخطتين وابخس الحظين جهل الحق وأسبابه ومعاداة اهله وطلابه وإذا عظم المطلوب وأعوزك الرفيق الناصح العليم فارحل بهمتك من بين الاموات وعليك بمعلم إبراهيم فقد ذكرنا في هذه المسئلة من النقول والادلة والنكت البديعة ما لعله لا يوجد في شيء من كتب المصنفين ولا يعرف قدره إلا من كان من الفضلاء المنصفين ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه التوكل واليه الاستناد فإنه لا يخيب من توكل عليه ولا يضيع من لاذ به وفوض امره إليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.